فصل: فَصْلٌ: بَيَانُ الْكَلَامِ فِيمَنْ يُغَسِّلُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: بَيَانُ الْكَلَامِ فِيمَنْ يُغَسِّلُ:

وَأَمَّا بَيَانُ الْكَلَامِ فِيمَنْ يُغَسِّلُ فَنَقُولُ: الْجِنْسُ يُغَسِّلُ الْجِنْسَ، فَيُغَسِّلُ الذَّكَرُ الذَّكَرَ، وَالْأُنْثَى الْأُنْثَى؛ لِأَنَّ حِلَّ الْمَسِّ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ ثَابِتٌ لِلْجِنْسِ حَالَةَ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْغَاسِلُ جُنُبًا أَوْ حَائِضًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ التَّطْهِيرُ حَاصِلٌ فَيَجُوزُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ كَرِهَ لِلْحَائِضِ الْغُسْلَ؛ لِأَنَّهَا لَوْ اغْتَسَلَتْ بِنَفْسِهَا لَمْ تَعْتَدَّ بِهِ فَكَذَا إذَا غَسَّلَتْ، وَلَا يُغَسِّلُ الْجِنْسَ خِلَافُ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَسِّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ ثَابِتَةٌ حَالَةَ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْمَجْبُوبُ وَالْخَصِيُّ فِي ذَلِكَ مِثْلُ الْفَحْلِ، كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ إلَّا الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا إذَا لَمْ تَثْبُتْ الْبَيْنُونَةُ بَيْنَهُمَا فِي حَالَةِ حَيَاتِهِ، وَلَا حَدَثَ بَعْدَ وَفَاتِهِ مَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ، أَوْ الصَّغِيرَ وَالصَّغِيرَةَ، فَبَيَانُ ذَلِكَ فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ.
أَمَّا الرَّجُلُ فَنَقُولُ: إذَا مَاتَ رَجُلٌ فِي سَفَرٍ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ يُغَسِّلُهُ الرَّجُلُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ نِسَاءٌ لَا رَجُلَ فِيهِنَّ، فَإِنْ كَانَ فِيهِنَّ امْرَأَتُهُ غَسَّلَتْهُ وَكَفَّنَتْهُ وَصَلَّيْنَ عَلَيْهِ وَتَدْفِنُهُ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتُغَسِّلُ زَوْجَهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَوْ اسْتَقْبَلْنَا مِنْ الْأَمْرِ مَا اسْتَدْبَرْنَا لَمَا غَسَّلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا نِسَاؤُهُ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ عَالِمَةً وَقْتَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِبَاحَةِ غُسْلِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا، ثُمَّ عَلِمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْصَى إلَى امْرَأَتِهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ أَنْ تُغَسِّلَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَهَكَذَا فَعَلَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ؛ وَلِأَنَّ إبَاحَةَ الْغُسْلِ مُسْتَفَادَةٌ بِالنِّكَاحِ فَتَبْقَى مَا بَقِيَ النِّكَاحُ، وَالنِّكَاحُ بَعْدَ الْمَوْتِ بَاقٍ إلَى وَقْتِ انْقِطَاعِ الْعِدَّةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَتْ الْمَرْأَةُ حَيْثُ لَا يُغَسِّلُهَا الزَّوْجُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ انْتَهَى مِلْكُ النِّكَاحِ لِانْعِدَامِ الْمَحِلِّ، فَصَارَ الزَّوْجُ أَجْنَبِيًّا فَلَا يَحِلُّ لَهُ غُسْلُهَا وَاعْتُبِرَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ حَيْثُ لَا يَنْتَفِي عَنْ الْمَحَلِّ بِمَوْتِ الْمَالِكِ، وَيَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَحَلِّ فَكَذَا هَذَا، وَهَذَا إذَا لَمْ تَثْبُتْ الْبَيْنُونَةُ بَيْنَهُمَا فِي حَالِ حَيَاةِ الزَّوْجِ، فَأَمَّا إذَا ثَبَتَتْ بِأَنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، أَوْ بَائِنًا ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَا يُبَاحُ لَهَا غُسْلُهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ ارْتَفَعَ بِالْإِبَانَةِ وَكَذَا إذَا قَبَّلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا، ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ ثَبَتَتْ بِالتَّقْبِيلِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ فَبَطَلَ مِلْكُ النِّكَاحِ ضَرُورَةً.
وَكَذَا لَوْ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ- وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ- أَسْلَمَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ النِّكَاحِ.
وَلَوْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُزِيلُ مِلْكَ النِّكَاحِ.
وَأَمَّا إذَا حَدَثَ بَعْدَ وَفَاةِ الزَّوْجِ مَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ لَا يُبَاحُ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ يُبَاحُ بِأَنْ ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ ثُمَّ أَسْلَمَتْ، وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ: أَنَّ الرِّدَّةَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا تَرْفَعُ النِّكَاحَ؛ لِأَنَّهُ ارْتَفَعَ بِالْمَوْتِ فَبَقِيَ حِلُّ الْغُسْلِ، كَمَا كَانَ بِخِلَافِ الرِّدَّةِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ، وَلَنَا أَنَّ زَوَالَ النِّكَاحِ مَوْقُوفٌ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَكَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا فَيَرْتَفِعُ بِالرِّدَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مُطْلَقًا فَقَدْ بَقِيَ فِي حَقِّ حِلِّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ، وَكَمَا تَرْفَعُ الرِّدَّةُ مُطْلَقَ الْحِلِّ تَرْفَعُ مَا بَقِيَ مِنْهُ وَهُوَ حِلُّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا طَاوَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا، أَوْ قَبَّلَتْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، أَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ بَعْدَ مَوْتِهِ فَوَجَبَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، لَيْسَ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ.
وَلَوْ مَاتَ الزَّوْجُ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ لَيْسَ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ وَكَذَا إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا حِلُّ الْغُسْلِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَلَا يَثْبُتُ بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا دَخَلَ الزَّوْجُ بِأُخْتِ امْرَأَتِهِ بِشُبْهَةٍ وَوَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ ثُمَّ مَاتَ فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَكَذَلِكَ الْمَجُوسِيُّ إذَا أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ ثُمَّ أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ الْمَجُوسِيَّةُ لَمْ تُغَسِّلْهُ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ كَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاث، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُغَسِّلَهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَيْسَ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ.
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِنَّ امْرَأَتُهُ وَلَكِنْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ كَافِرٌ عَلَّمْنَهُ غُسْلَ الْمَيِّتِ وَيُخَلِّينَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يُغَسِّلَهُ وَيُكَفِّنَهُ، ثُمَّ يُصَلِّينَ عَلَيْهِ وَيَدْفِنَّهُ؛ لِأَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ أَخَفُّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ فِي الدِّينِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ لَا مُسْلِمٌ وَلَا كَافِرٌ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ صَبِيَّةٌ صَغِيرَةٌ لَمْ تَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ وَأَطَاقَتْ الْغُسْلَ عَلَّمْنَهَا الْغُسْلَ، وَيُخَلِّينَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا حَتَّى تُغَسِّلَهُ وَتُكَفِّنَهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَوْرَةِ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي حَقِّهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ ذَلِكَ فَإِنَّهُنَّ لَا يُغَسِّلْنَهُ، سَوَاءٌ كُنَّ ذَوَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ الْمَحْرَمَ فِي حُكْمِ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ وَالْأَجْنَبِيَّةَ سَوَاءٌ، فَكَمَا لَا تُغَسِّلُهُ الْأَجْنَبِيَّةُ فَكَذَا ذَوَاتُ مَحَارِمِهِ، وَلَكِنْ يُيَمِّمْنَهُ غَيْرَ أَنَّ الْمُيَمِّمَةَ إذَا كَانَتْ ذَاتَ رَحِمِ مَحْرَمٍ مِنْهُ تُيَمِّمُهُ بِغَيْرِ خِرْقَةٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ رَحِمِ مَحْرَمٍ مِنْهُ تُيَمِّمُهُ بِخِرْقَةٍ تَلُفُّهَا عَلَى كَفِّهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَمَسَّهُ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ فِيهِنَّ أُمُّ وَلَدِهِ لَمْ تُغَسِّلْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ، وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ فَأَشْبَهَتْ الْمَنْكُوحَةَ، وَلَنَا أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَبْقَى فِيهَا بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا كَانَ مِلْكَ يَمِينٍ وَهُوَ يَعْتِقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ، وَالْحُرِّيَّةُ تُنَافِي مِلْكَ الْيَمِينِ فَلَا يَبْقَى بِخِلَافِ الْمَنْكُوحَةِ، فَإِنَّ حُرِّيَّتَهَا لَا تُنَافِي مِلْكَ النِّكَاحِ، كَمَا فِي حَالِ حَيَاةِ الزَّوْجِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ فِيهِنَّ أَمَتُهُ، أَوْ مُدَبَّرَتُهُ، أَمَّا الْأَمَةُ؛ فَلِأَنَّهَا زَالَتْ عَنْ مِلْكِهِ بِالْمَوْتِ إلَى الْوَرَثَةِ، وَلَا يُبَاحُ لِأَمَةِ الْغَيْرِ عَوْرَتُهُ غَيْرَ أَنَّهَا لَوْ يَمَّمَتْهُ تُيَمِّمُهُ بِغَيْرِ خِرْقَةٍ؛ لِأَنَّهُ يُبَاحُ لِلْجَارِيَةِ مَسُّ مَوْضِعِ التَّيَمُّمِ بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ فَإِنَّهَا تَعْتِقُ وَتَلْتَحِقُ بِسَائِرِ الْحَرَائِرِ الْأَجْنَبِيَّاتِ.
وَأَمَّا الْمُدَبَّرَةُ؛ فَلِأَنَّهَا تَعْتِقُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، ثُمَّ أُمُّ الْوَلَدِ لَا تُغَسِّلُهُ فَلَأَنْ لَا تُغَسِّلَهُ هَذِهِ أَوْلَى، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْأَمَةُ تُغَسِّلُ مَوْلَاهَا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَنْ يُغَسِّلُهُ فَبَقِيَ الْمِلْكُ لَهُ فِيهَا حُكْمًا، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ تَنْدَفِعُ بِالْجِنْسِ أَوْ بِالتَّيَمُّمِ.
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَنَقُولُ: إذَا مَاتَتْ امْرَأَةٌ فِي سَفَرٍ فَإِنْ كَانَ مَعَهَا نِسَاءٌ غَسَّلْنَهَا وَلَيْسَ لِزَوْجِهَا أَنْ يُغَسِّلَهَا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَهِيَ تَقُولُ: وَارَأْسَاهْ فَقَالَ: وَأَنَا وَارَأْسَاهْ لَا عَلَيْكِ أَنَّكِ إذَا مِتِّ غَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ» وَمَا جَازَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجُوزُ لِأُمَّتِهِ، هُوَ الْأَصْلُ إلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا غَسَّلَ فَاطِمَةَ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ جُعِلَ قَائِمًا حُكْمًا لِحَاجَةِ الْمَيِّتِ إلَى الْغُسْلِ، كَمَا إذَا مَاتَ الزَّوْجُ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ امْرَأَةٍ تَمُوتُ بَيْنَ رِجَالٍ فَقَالَ: تُيَمَّمُ بِالصَّعِيدِ» وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ زَوْجُهَا، أَوْ لَا يَكُونُ؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ ارْتَفَعَ بِمَوْتِهَا فَلَا يَبْقَى حِلُّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّهَا صَارَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى التَّأْبِيدِ، وَالْحُرْمَةُ عَلَى التَّأْبِيدِ تُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً، وَلِهَذَا جَازَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا.
وَإِذَا زَالَ النِّكَاحُ صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً فَبَطَلَ حِلُّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مِلْكَ النِّكَاحِ قَائِمٌ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَالِكٌ، وَالْمَرْأَةُ مَمْلُوكَةٌ وَالْمِلْكُ لَا يَزُولُ عَنْ الْمَحَلِّ بِمَوْتِ الْمَالِكِ، وَيَزُولُ بِمَوْتِ الْمَحَلِّ، كَمَا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ فَهُوَ الْفَرْقُ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ مَحْمُولٌ عَلَى الْغُسْلِ تَسَبُّبًا فَمَعْنَى قَوْلِهِ: «غَسَّلْتُكِ» قُمْتُ بِأَسْبَابِ غُسْلِك، كَمَا يُقَالُ بَنَى الْأَمِيرُ دَارًا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا صِيَانَةً لِمَنْصِبِ النُّبُوَّةِ عَمَّا يُورِثُ شُبْهَةَ نَفْرَةِ الطِّبَاعِ عَنْهُ، وَتَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا بِأَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ نِكَاحُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِقَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ إلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي».
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا غَسَّلَتْهَا أُمُّ أَيْمَنَ.
وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ عَلِيًّا غَسَّلَهَا فَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إنَّ فَاطِمَةَ زَوْجَتُكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» فَدَعْوَاهُ الْخُصُوصِيَّةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُغَسِّلُ زَوْجَتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نِسَاءٌ مُسْلِمَاتٌ وَمَعَهُمْ امْرَأَةٌ كَافِرَةٌ عَلَّمُوهَا الْغُسْلَ وَيُخَلُّونَ بَيْنَهُمَا حَتَّى تُغَسِّلَهَا وَتُكَفِّنَهَا، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَيْهَا الرِّجَالُ وَيَدْفِنُوهَا لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ نِسَاءٌ لَا مُسْلِمَةٌ وَلَا كَافِرَةٌ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ صَبِيٌّ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ وَأَطَاقَ الْغُسْلَ عَلَّمُوهُ الْغُسْلَ فَيُغَسِّلُهَا وَيُكَفِّنُهَا لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ ذَلِكَ فَإِنَّهَا لَا تُغَسَّلُ، وَلَكِنَّهَا تُيَمَّمُ لِمَا ذَكَرْنَا غَيْرَ أَنَّ الْمُيَمِّمَ لَهَا إنْ كَانَ مَحْرَمًا لَهَا يُيَمِّمُهَا بِغَيْرِ خِرْقَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْرَمًا لَهَا فَمَعَ الْخِرْقَةِ يَلُفُّهَا عَلَى كَفِّهِ لِمَا مَرَّ وَيُعْرِضُ بِوَجْهِهِ عَنْ ذِرَاعَيْهَا؛ لِأَنَّ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ مَا كَانَ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَنْظُرَ إلَى ذِرَاعَيْهَا فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى وَجْهِهَا، كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ.
وَلَوْ مَاتَ الصَّبِيُّ الَّذِي لَا يُشْتَهَى لَا بَأْسَ أَنْ تُغَسِّلَهُ النِّسَاءُ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيَّةُ الَّتِي لَا تُشْتَهَى إذَا مَاتَتْ لَا بَأْسَ أَنْ يُغَسِّلَهَا الرِّجَالُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَوْرَةِ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ، ثُمَّ إذَا غُسِّلَ الْمَيِّتُ يُكَفَّنُ.

.فَصْلٌ: فِي تَكْفِينِ الْمَيِّتِ:

وَالْكَلَامُ فِي تَكْفِينِهِ فِي مَوَاضِعَ:
فِي بَيَانِ وُجُوبِ التَّكْفِينِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ كَمِّيَّةِ الْكَفَنِ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ التَّكْفِينِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَنُ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى وَجْهِ النَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا النَّصُّ فَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْبَسُوا هَذِهِ الثِّيَابَ الْبِيضَ فَإِنَّهَا خَيْرُ ثِيَابِكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ وَرُوِيَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا غَسَّلَتْ آدَمَ- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ- كَفَّنُوهُ وَدَفَنُوهُ ثُمَّ قَالَتْ لِوَلَدِهِ: هَذِهِ سُنَّةُ مَوْتَاكُمْ، وَالسُّنَّةُ الْمُطْلَقَةُ فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى وُجُوبِهِ؛ وَلِهَذَا تَوَارَثَهُ النَّاسُ مِنْ لَدُنْ وَفَاةِ آدَمَ- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَذَا دَلِيلُ الْوُجُوبِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ إنَّمَا وَجَبَ كَرَامَةً لَهُ، وَتَعْظِيمًا، وَمَعْنَى وَالْكَرَامَةِ التَّعْظِيمِ إنَّمَا يَتِمُّ بِالتَّكْفِينِ فَكَانَ وَاجِبًا.

.(فَصْلٌ): كَيْفِيَّةُ وُجُوبِهِ:

وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ وُجُوبِهِ فَوُجُوبُهُ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ قَضَاءً لِحَقِّ الْمَيِّتِ، حَتَّى إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ يَسْقُطُ عَنْ الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ صَارَ مَقْضِيًّا، كَمَا فِي الْغُسْلِ.
وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي كَمِّيَّةِ الْكَفَنِ.
فَنَقُولُ: أَكْثَرُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ الرَّجُلُ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ: إزَارٌ، وَرِدَاءٌ، وَقَمِيصٌ وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُسَنُّ الْقَمِيصُ فِي الْكَفَنِ، وَإِنَّمَا الْكَفَنُ ثَلَاثُ لَفَائِفَ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سُحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ» وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «كَفِّنُونِي فِي قَمِيصِي فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفِّنَ فِي قَمِيصِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ»، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ: أَحَدُهَا الْقَمِيصُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ» وَالْأَخْذُ بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَضَرَ تَكْفِينَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَفْنَهُ وَعَائِشَةُ مَا حَضَرَتْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهَا: لَيْسَ فِيهِ قَمِيصٌ أَيْ: لَمْ يَتَّخِذْ قَمِيصًا جَدِيدًا.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَفَنُ الْمَرْأَةِ خَمْسَةُ أَثْوَابٍ، وَكَفَنُ الرَّجُلِ ثَلَاثَةٌ، وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ؛ وَلِأَنَّ حَالَ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ يُعْتَبَرُ بِحَالِ حَيَاتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ يَخْرُجُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ عَادَةً: قَمِيصٌ، وَسَرَاوِيلُ، وَعِمَامَةٌ، فَالْإِزَارُ بَعْدَ الْمَوْتِ قَائِمٌ مَقَامَ السَّرَاوِيلِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ إنَّمَا كَانَ يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ لِئَلَّا تَنْكَشِفَ عَوْرَتُهُ عِنْدَ الْمَشْيِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَأُقِيمَ الْإِزَارُ مَقَامَهُ، وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْ الْعِمَامَةَ فِي الْكَفَنِ، وَقَدْ كَرِهَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَصَارَ الْكَفَنُ شَفْعًا، وَالسُّنَّةُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ وِتْرًا، وَاسْتَحْسَنَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُعَمِّمُ الْمَيِّتَ وَيَجْعَلُ ذَنَبَ الْعِمَامَةِ عَلَى وَجْهِهِ، بِخِلَافِ حَالِ الْحَيَاةِ فَإِنَّهُ يُرْسِلُ ذَنَبَ الْعِمَامَةِ مِنْ قِبَلِ الْقَفَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِمَعْنَى الزِّينَةِ، وَقَدْ انْقَطَعَ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي حَقِّ الرَّجُلِ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ كُفِّنَ فِي بُرْدٍ وَحُلَّةٍ» وَالْحُلَّةُ اسْمٌ لِلزَّوْجِ مِنْ الثِّيَابِ، وَالْبُرْدُ اسْمٌ لِلْفَرْدِ مِنْهَا وَأَدْنَى مَا يُكَفَّنُ فِيهِ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ ثَوْبَانِ: إزَارٌ وَرِدَاءٌ لِقَوْلِ الصِّدِّيقِ: كَفِّنُونِي فِي ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ؛ وَلِأَنَّ أَدْنَى مَا يَلْبَسُهُ الرَّجُلُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ثَوْبَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ فِيهِمَا وَيُصَلِّيَ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، فَكَذَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفَّنَ فِيهِمَا أَيْضًا.
وَيُكْرَهُ أَنْ يُكَفَّنَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ فِي حَالَةِ الْحَيَاة تَجُوزُ صَلَاتُهُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مَعَ الْكَرَاهَةِ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ يُكْرَهُ أَنْ يُكَفَّنَ فِيهِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِأَنْ كَانَ لَا يُوجَدُ غَيْرُهُ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ كُفِّنَ فِي نَمِرَةٍ فَكَانَ إذَا غُطِّيَ بِهَا رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غُطِّيَ بِهَا رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُغَطَّى بِهَا رَأْسُهُ وَيُجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْإِذْخِرِ».
وَكَذَا رُوِيَ: «أَنَّ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ كُفِّنَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَمْ يُوجَدْ لَهُ غَيْرُهُ» فَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ.
وَالْغُلَامُ الْمُرَاهِقُ كَالرَّجُلِ يُكَفَّنُ فِيمَا يُكَفَّنُ فِيهِ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّ الْمُرَاهِقَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ يَخْرُجُ فِيمَا يَخْرُجُ فِيهِ الْبَالِغُ عَادَةً فَكَذَا يُكَفَّنُ فِيمَا يُكَفَّنُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا لَمْ يُرَاهِقْ فَإِنْ كُفِّنَ فِي خِرْقَتَيْنِ: إزَارٍ، وَرِدَاءٍ فَحَسَنٌ، وَإِنْ كُفِّنَ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ جَازَ؛ لِأَنَّ فِي حَالِ حَيَاتِهِ كَانَ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ فِي حَقِّهِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَأَكْثَرُ مَا تُكَفَّنُ فِيهِ خَمْسَةُ أَثْوَابٍ: دِرْعٌ، وَخِمَارٌ، وَإِزَارٌ، وَلِفَافَةٌ، وَخِرْقَةٌ هُوَ السُّنَّةُ فِي كَفَنِ الْمَرْأَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاوَلَ اللَّوَاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ فِي كَفَنِهَا ثَوْبًا ثَوْبًا حَتَّى نَاوَلَهُنَّ خَمْسَةَ أَثْوَابٍ آخِرُهُنَّ خِرْقَةٌ تَرْبِطُ بِهَا ثَدْيَيْهَا» وَلِمَا رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ فِي حَالِ حَيَاتِهَا تَخْرُجُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ عَادَةً: دِرْعٌ، وَخِمَارٌ، وَإِزَارٌ، وَمُلَاءَةٌ، وَنِقَابٌ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ تُكَفَّنُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ، ثُمَّ الْخِرْقَةُ تُرْبَطُ فَوْقَ الْأَكْفَانِ عِنْدَ الصَّدْرِ فَوْقَ الثَّدْيَيْنِ، وَالْبَطْنِ كَيْ لَا يَنْتَشِرَ عَلَيْهَا الْكَفَنُ إذَا حُمِلَتْ عَلَى السَّرِيرِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رَوَيْنَا فِي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّهَا قَالَتْ: آخِرُهُنَّ خِرْقَةٌ تَرْبِطُ بِهَا ثَدْيَيْهَا.
، وَأَدْنَى مَا تُكَفَّنُ فِيهِ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ: إزَارٌ، وَرِدَاءٌ، وَخِمَارٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى السَّتْرِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ يَحْصُلُ بِثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ حَتَّى يَجُوزَ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ فِيهَا وَتَخْرُجَ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَيُكْرَهُ أَنْ تُكَفَّنَ الْمَرْأَةُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تُكَفَّنَ فِي ثَوْبَيْنِ.
وَالْجَارِيَةُ الْمُرَاهِقَةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَالِغَةِ فِي الْكَفَنِ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَالسِّقْطُ يُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حُرْمَةٌ كَامِلَةٌ؛ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا وَرَدَ بِتَكْفِينِ الْمَيِّتِ، وَاسْمُ الْمَيِّتِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ، كَمَا لَا يَنْطَلِقُ عَلَى بَعْضِ الْمَيِّتِ.
وَكَذَا مَنْ وُلِدَ مَيِّتًا، أَوْ وُجِدَ طَرَفٌ مِنْ أَطْرَافِ الْإِنْسَانِ، أَوْ نِصْفُهُ مَشْقُوقًا طُولًا أَوْ نِصْفُهُ مَقْطُوعًا عَرْضًا لَكِنْ لَيْسَ مَعَهُ الرَّأْسُ لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ الرَّأْسُ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يُكَفَّنُ وَعَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ فِي الْغُسْلِ يُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا فِي فَصْلِ الْغُسْلِ، وَإِنْ وُجِدَ أَكْثَرُهُ يُكَفَّنُ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ.
وَكَذَا الْكَافِرُ إذَا مَاتَ وَلَهُ ذُو رَحِمِ مَحْرَمٍ مُسْلِمٌ يُغَسِّلُهُ وَيُكَفِّنُهُ لَكِنْ فِي خِرْقَةٍ؛ لِأَنَّ التَّكْفِينَ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ لِلْمَيِّتِ.
وَلَا يُكَفَّنُ الشَّهِيدُ كَفَنًا جَدِيدًا غَيْرَ ثِيَابِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «زَمِّلُوهُمْ بِثِيَابِهِمْ وَكُلُومِهِمْ».

.فَصْلٌ: صِفَةُ الْكَفَنِ:

وَأَمَّا صِفَةُ الْكَفَنِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ التَّكْفِينُ بِالثِّيَابِ الْبِيضِ لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَحَبُّ الثِّيَابِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الْبِيضُ فَلْيَلْبَسْهَا أَحْيَاؤُكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «الْبَسُوا هَذِهِ الثِّيَابَ الْبِيضَ فَإِنَّهَا خَيْرُ ثِيَابِكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ»، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَسِّنُوا أَكْفَانَ الْمَوْتَى فَإِنَّهُمْ يَتَزَاوَرُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَيَتَفَاخَرُونَ بِحُسْنِ أَكْفَانِهِمْ»، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا وَلِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ مَيِّتًا فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ» وَالْبُرُودُ وَالْكَتَّانُ وَالْقَصَبُ كُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ، وَالْخَلَقُ إذَا غُسِلَ وَالْجَدِيدُ سَوَاءٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: اغْسِلُوا ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ وَكَفِّنُونِي فِيهِمَا فَإِنَّهُمَا لِلْمُهْلِ وَالصَّدِيدِ، وَإِنَّ الْحَيَّ أَحْوَجُ إلَى الْجَدِيدِ مِنْ الْمَيِّتِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا يَجُوزُ لِكُلِّ جِنْسٍ أَنْ يَلْبَسَهُ فِي حَيَاتِهِ يَجُوزُ أَنْ يُكَفَّنَ فِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ حَتَّى يُكْرَهَ أَنْ يُكَفَّنَ الرَّجُلُ فِي الْحَرِيرِ وَالْمُعَصْفَرِ وَالْمُزَعْفَرِ، وَلَا يُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ ذَلِكَ اعْتِبَارًا بِاللِّبَاسِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ.

.فَصْلٌ: كَيْفِيَّةُ التَّكْفِينِ:

وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّكْفِينِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُجَمَّرَ الْأَكْفَانُ أَوَّلًا وِتْرًا أَيْ: مَرَّةً، أَوْ ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا أَجْمَرْتُمْ الْمَيِّتَ فَأَجْمِرُوهُ وِتْرًا»؛ وَلِأَنَّ الثَّوْبَ الْجَدِيدَ أَوْ الْغَسِيلَ مِمَّا يُطَيَّبُ وَيُجَمَّرُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ، وَالْوِتْرُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» ثُمَّ تُبْسَطُ اللِّفَافَةُ وَهِيَ الرِّدَاءُ طُولًا، ثُمَّ يُبْسَطُ الْإِزَارُ عَلَيْهَا طُولًا ثُمَّ يُلْبِسُهُ الْقَمِيصَ إنْ كَانَ لَهُ قَمِيصٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سِرْوَالَهُ؛ لِأَنَّ اللُّبْسَ بَعْدَ الْوَفَاةِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْحَيَاةِ إلَّا أَنَّ فِي حَيَاتِهِ كَانَ يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ حَتَّى لَا تَنْكَشِفَ عَوْرَتُهُ عِنْدَ الْمَشْيِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَأُقِيمَ الْإِزَارُ مَقَامَ السَّرَاوِيلِ، إلَّا أَنَّ الْإِزَارَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ تَحْتَ الْقَمِيصِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ فَوْقَ الْقَمِيصِ مِنْ الْمَنْكِبِ إلَى الْقَدَمِ؛ لِأَنَّ الْإِزَارَ تَحْتَ الْقَمِيصِ حَالَةَ الْحَيَاةِ لِيَتَيَسَّرَ عَلَيْهِ الْمَشْيُ وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُحْتَاجُ إلَى الْمَشْيِ، ثُمَّ يُوضَعُ الْحَنُوطُ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ.
لِمَا رُوِيَ أَنَّ آدَمَ- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- لَمَّا تُوُفِّيَ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَحَنَّطُوهُ وَيُوضَعُ الْكَافُورُ عَلَى مَسَاجِدِهِ يَعْنِي جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ وَيَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَقَدَمَيْهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: وَتُتْبَعُ مَسَاجِدُهُ بِالطِّيبِ يَعْنِي بِالْكَافُورِ؛ وَلِأَنَّ تَعْظِيمَ الْمَيِّتِ وَاجِبٌ وَمِنْ تَعْظِيمِهِ أَنْ يُطَيَّبَ لِئَلَّا تَجِيءَ مِنْهُ رَائِحَةٌ مُنْتِنَةٌ وَلِيُصَانَ عَنْ سُرْعَةِ الْفَسَادِ، وَأَوْلَى الْمَوَاضِعِ بِالتَّعْظِيمِ مَوَاضِعُ السُّجُودِ، وَكَذَا الرَّأْسُ وَاللِّحْيَةُ هُمَا مِنْ أَشْرَفِ الْأَعْضَاءِ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ مَوْضِعُ الدِّمَاغِ، وَمَجْمَعُ الْحَوَاسِّ، وَاللِّحْيَةُ مِنْ الْوَجْهِ، وَالْوَجْهُ مِنْ أَشْرَفِ الْأَعْضَاءِ، وَعَنْ زُفَرَ أَنَّهُ قَالَ: يُذَرُّ الْكَافُورُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَأَنْفِهِ وَفَمِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَتَبَاعَدَ الدُّودُ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُذَرُّ عَلَيْهِ الْكَافُورُ فَخَصَّ هَذِهِ الْمَحَالَّ مِنْ بَدَنِهِ لِهَذَا، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ وَلَا بَأْسَ بِسَائِرِ الطِّيبِ غَيْرِ الزَّعْفَرَانِ وَالْوَرْسِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «نَهَى الرِّجَالَ عَنْ الْمُزَعْفَرِ» وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ هَلْ تُحْشَى مَحَارِقُهُ؟ وَقَالُوا: إنْ خُشِيَ خُرُوجَ شَيْءٍ يُلَوِّثُ الْأَكْفَانَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي أَنْفِهِ وَفَمِهِ، وَقَدْ جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ فِي دُبُرِهِ أَيْضًا، وَاسْتَقْبَحَ ذَلِكَ مَشَايِخُنَا وَإِنْ لَمْ يُخْشَ جَازَ التَّرْكُ؛ لِانْعِدَامِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، ثُمَّ يُعْطَفُ الْإِزَارُ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ شِقِّهِ الْأَيْسَرِ وَإِنْ كَانَ الْإِزَارُ طَوِيلًا حَتَّى يُعْطَفَ عَلَى رَأْسِهِ وَسَائِرِ جَسَدِهِ فَهُوَ أَوْلَى، ثُمَّ يُعْطَفُ مِنْ قِبَلِ شِقِّهِ الْأَيْمَنِ كَذَلِكَ فَيَكُونُ الْأَيْمَنُ فَوْقَ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ تُعْطَفُ اللِّفَافَةُ، وَهِيَ الرِّدَاءُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُنْتَقِبَ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ هَكَذَا يَفْعَلُ إذَا تَحَزَّمَ بَدَأَ بِعَطْفِ شِقِّهِ الْأَيْسَرِ عَلَى الْأَيْمَنِ ثُمَّ يَعْطِفُ الْأَيْمَنَ عَلَى الْأَيْسَرِ فَكَذَا يُفْعَلُ بِهِ بَعْدَ الْمَمَاتِ، فَإِنْ خِيفَ أَنْ تَنْتَشِرَ أَكْفَانُهُ تُعْقَدُ، وَلَكِنْ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ تُحَلُّ الْعُقَدُ لِزَوَالِ مَا لِأَجْلِهِ عُقِدَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيُبْسَطُ لَهَا اللِّفَافَةُ وَالْإِزَارُ وَاللِّفَافَةُ فَوْقَ الْخِمَارِ وَالْخِرْقَةُ تُرْبَطُ فَوْقَ الْأَكْفَانِ عِنْدَ الصَّدْرِ فَوْقَ الثَّدْيَيْنِ وَالْبَطْنِ كَيْ لَا يَنْتَشِرَ الْكَفَنُ بِاضْطِرَابِ ثَدْيَيْهَا عِنْدَ الْحَمْلِ عَلَى السَّرِيرِ، وَعَرْضُ الْخِرْقَةِ مَا بَيْنَ الثَّدْيِ وَالسُّرَّةِ هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ وَيُسْدَلُ شَعْرُهَا مَا بَيْنَ ثَدْيَيْهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا تَحْتَ الْخِمَارِ، وَلَا يُسْدَلُ شَعْرُهَا خَلْفَ ظَهْرِهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُسْدَلُ خَلْفَ ظَهْرِهَا وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «لَمَّا تُوُفِّيَتْ رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَفَّرْنَا شَعْرَهَا ثَلَاثَةَ فُرُوقٍ فِي نَاصِيَتِهَا وَقَرْنَيْهَا وَأَلْقَيْنَاهَا خَلْفَهَا» فَدَلَّ أَنَّ السُّنَّةَ هَكَذَا، وَلَنَا أَنَّ إلْقَاءَهَا إلَى ظَهْرِهَا مِنْ بَابِ الزِّينَةِ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِحَالِ زِينَةٍ وَلَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِعْلَ أُمِّ عَطِيَّةَ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ ذَلِكَ.
ثُمَّ الْمُحْرِمُ يُكَفَّنُ، كَمَا يُكَفَّنُ الْحَلَالُ عِنْدَنَا أَيْ: يُغَطَّى رَأْسُهُ وَوَجْهُهُ وَيُطَيَّبُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُخَمَّرُ رَأْسُهُ وَلَا يُقَرَّبُ مِنْهُ طِيبٌ وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ مُحْرِمٍ وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ وَانْدَقَّ عُنُقُهُ فَقَالَ: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبِهِ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «وَلَا تَقْرَبُوا مِنْهُ طِيبًا» وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «قَالَ فِي الْمُحْرِمِ يَمُوتُ: خَمِّرُوهُمْ وَلَا تُشَبِّهُوهُمْ بِالْيَهُودِ» وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحْرِمِ: إذَا مَاتَ انْقَطَعَ إحْرَامُهُ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ، وَصَدَقَةٌ جَارِيَةٌ وَعِلْمٌ عَلَّمَهُ النَّاسَ يَنْتَفِعُونَ بِهِ» وَالْإِحْرَامُ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَمَا رُوِيَ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَيْنَا فِي الْمُحْرِمِ فَبَقِيَ لَنَا الْحَدِيثُ الْمُطْلَقُ الَّذِي رَوَيْنَا أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ مُنْقَطِعٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى مُحْرِمٍ خَاصٍّ جَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصًا بِهِ بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا.